الزهراء تبيّن حقّها ومعالم الدين
أشعّة مـن خطبتها عليها السلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرجع الديني الشيخ وحيد الخراساني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في خطبة الزهراء عليها السلام، في المسجد النبويّ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، إشراقات من نور فاطمة عليها السلام وعلمها. من «منهاج الصالحين» الرسالة العملية للمرجع الديني الشيخ «وحيد الخراساني» اخترنا «أشعة من خطبتها عليها السلام».
كلمة جعل الإخلاص تأويلها
كان ممّا قالت عليها السلام:
«وَأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةً جَعَلَ الإخْلاصَ تَأويلَها، وَضَمّنَ القُلُوبَ مَوْصُولَها، أنارَ فِي الَفِكَرِ مَعْقُولَها. المُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصارِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنْ الأَوْهامِ كيفيّتُهُ».
فبيّنت أنّ تأويل كلمة التوحيد هو الإخلاص، والإخلاص الذي هو تأويل كلمة التوحيد إخلاص في العلم والعمل. أما الإخلاص «علماً» فبنفي الصفات الزائدة على الذات المستلزمة للتجزئة والتركيب والتثنية والحدّ والعدَد، فهو الواحد الأحد، وتفسيره ما قاله عليّ عليه السلام:
«أوّلُ الدين معرفتُه، وكمالُ معرفته التصديقُ به، وكمالُ التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادةِ كلّ صفةٍ أنّها غيرُ الموصوف، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة، فمَن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله».
وأمّا الإخلاص عملاً فبإتيان الأعمال الجوانحيّة والجوارحيّة خالصة لوجهه تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾ (الليل:19-20)، وهو مقام المقرّبين الذين يصلون بالنظر إلى ملكوت السماوات والأرض إلى مقام اليقين بأنّه ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد:3)فيوجّهون وجوههم إلى الذي ﴿فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ (الأنعام:79) ويعبدونه ويدعونه مخلصين له الدين، وبعد أن يصيروا مخلِصين يصرف الله عنهم السوء والفحشاء، فيصيرون من المخلَصين الذين يعجز الشيطان عن الاستيلاء على نفوسهم، قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص:82-83) ثم بيّنت عليها السلام ما يتعلّق بالقلوب من تضمينها بموصول هذه الكلمة، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها،﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (لقمان:25).
ابتدع ..وأنشأ ..وكوّن
ثم قالت عليها السلام بعد توحيد الإله وتنزيهه: «ابْتَدَعَ الأَشْياءَ لا مِنْ شيءٍ كانَ قَبْلَها، وَأنْشَأها بِلا احْتِذاءِ أمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وذَرَأها بِمَشِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إِلى تَكْوِينِها، وَلا فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِها إلاّ تَبْيِيناً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِيهَاً عَلى طَاعَتِهِ، وَإظْهارَاً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّدَاً لِبَرِيَّتِهِ، وَإعْزازَاً لِدَعْوَتِهِ. ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ عَلى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيَتِهِ ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وحِياشَةً لَهُمْ إلى جَنَّتِهِ».
نبّهت صلوات الله عليها على أقسام أفعاله تعالى من الإبداع والإنشاء والتكوين، وبيّنت مبدأ الخلق ومنتهاه، وسبب الإيجاد من القدرة والمشيئة، وغايته من تثبيت الحكمة، والبينة على الطاعة، وإظهار القدرة، وتعبّد البرية، وإعزاز الدعوة، وعدم احتياجه إلى تكوينها، وعدم استفادته من تصويرها، وشرحُ كلّ كلمة من هذه الكلمات تحتاج إلى تفصيل لا يسعه المقام.
وأفادت عليها السلام في الإبداع لا من شيء، والإنشاء بلا مثال، وتكوين الكائنات بالقدرة، ودرئها بالمشيئة، أنه تعالى غني في أفعاله عن المادة والأسباب والأمثال والغاية، وأن الغرض من أفعاله ليس هو الحاجة...
كوّن الكائنات بقدرته، وأنشأ الأشياء بمشيئته، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(يس:82)
والغرض من أفعاله سبحانه لا يعود إليه وإنما هو جود بالإيجاد لإيصال العباد إلى الكمال بالمعرفة والعبادة، وإجابة الدعوة والإطاعة المنتهية إلى السعادة.
ثم بيّنت عليها السلام أنّ الثواب على الطاعة مجعولٌ منه تعالى، والعقاب على المعصية موضوعٌ منه تعالى، وحكمةُ جعلِ الثواب على الطاعة سوق العباد إلى الجنة، وحكمة وضع العقاب على المعصية صيانة العباد من النقمة، فإن الموصل إلى كل كمال وفضيلة والرادع عن كل منقصة ورذيلة هو الخوفُ والرجاء، ولا يتحقّقان إلا بالثواب والعقاب.
بأبي هدى اللهُ الناس
ثم قالت عليها السلام: «وَأشْهَدُ أنَّ أَبي مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أنْ أرْسَلَهُ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَلَهُ، وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ إِذِ الخَلائِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسَتْرِ الأهاوِيلِ مَصُونَةٌ، وَبِنهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالَى بِمآلِ الأُمُورِ، وَإِحاطَةً بِحَوادِثِ الدهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ المقدُورِ.
ابْتَعَثَهُ اللهُ إتْماماً لأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلى إِمْضاءِ حُكْمِهِ، وَإنفاذَاً لِمَقَادِيرِ حَتْمِهِ، فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً فِي أدْيانِها، عُكَّفاً عَلى نِيرانِها، عَابِدَةً لأِوْثانِها، مُنْكِرَةً للهِ مَعَ عِرْفانِها، فَأنارَ اللهُ بِأَبي مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ظُلَمَها، وَكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلا عَنِ الأَبْصارِ عَمَهَها، وعن الأنْفُسِ غُمَمَها، وَقامَ فِي النَاسِ بِالهِدايَةِ، فَأنْقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وَهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويِمِ، وَدَعَاهُمْ إِلى الصراطِ المُسْتَقِيمِ».
بعد أن شهدت بوحدانية الله حق الشهادة، شهدت بعبودية أبيها لله ورسالته، وأشارت إلى ما يتعلق بأشرف الخلائق وخاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم من بدء خلقته إلى بعثته، وما اختص به من اختيار الله له، واصطفائه من خلقه، وحكمة بعثته، وثمرة رسالته من إنقاذ الأمم المتفرقة في أديانهم بتوحيد الكلمة على كلمة التوحيد ... وأخذ الإقرار بالله منهم بعد الإنكار مع عرفانهم بفطرتهم: ﴿ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ (الزخرف:9).
قائدٌ إلى الرضوان اتّباعه
وأشارت عليها السلام إلى القرآن الكريم بقولها: «كِتابُ اللهِ النَّاطِقُ، وَالقُرآنُ الصَّادِقُ، وَالضياءُ اللاَّمِعُ، بَيّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مَتَجَليَّةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أشْياعُهُ، قَائِدٌ إلى الرضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَجاةِ اسْتِماعُهُ، بِهِ تُنالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرَةُ، وعَزَائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ الُمحَذَّرَةُ، وَبَيّناتُهُ الجَالِيَةُ، وَبَراهِينُهُ الكَافِيَةُ، وَفَضَائِلُهُ المَنْدُوبَةُ، وَرُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشَرائِعُهُ المَكْتُوبَةُ».
وبيانها عليها السلام يكشف عن إحاطتها بما في القرآن الحكيم من ظاهره الأنيق إلى باطنه العميق، ولا يسعنا شرح كلماتها في الرسول ورسالته، والقرآن وهدايته، لاشتمالها على ما لا يدرك بعضه، فضلاً عن كلّه، ونقتصر على التعرّض لمتن كلامها الذي أشارت به إلى جملة من الأسرار المكنونة في الشرائع المكتوبة في
القرآن، قالت عليها السلام:
«فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشّركِ، وَالصَلاةَ تَنْزِيَهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، وَالزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً فِي الرّزْقِ، وَالصّيامَ تَثْبِيتاً لِلإِخْلاصِ، وَالحَجَّ تَشْيِيداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنا نِظامَاً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أمانَاً مِنَ الفُرْقَةِ، وَالجِهادَ عِزَّاً لِلإِسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلى اسْتِيجابِ الأَجْر، وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الوَالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْسأةً في العمرِ ومَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالقَصاصَ حَقْنَاً لِلدماءِ، وَالوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضَاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ المَكاييلِ وَالمَوَازِينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ تَنْزِيهَاً عَنِ الرجْسِ، وَاجْتِنابَ القَذْفِ حِجابَاً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السّرقَةِ إيجابَاً لِلْعِفَّةِ، وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إخْلاصَاً له بِالربُوبِيَّةِ».
هذا ما ظهر ارتجالاً من علمها وحكمتها وفصاحتها وبلاغتها في مجلس واحد، مع المصائب التي صبّت عليها، من فَقد أبيها، وتظاهر الزمان عليها، فهي المشكاة التي قال الله تعالى فيها: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور:35)، فهي مع اتصالها بنور السماوات والأرض باستغراقها في معرفة الله وعبادته ، وانقطاعها بزهدها عن الدنيا وما فيها ، لا تحتاج إلى اقتباس العلم بالتعلّم.