أبو ذَرّ زمانِهِ
الفقيه المجاهد الشيخ محمّد تقيّ البافْقي اليزدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: الشيخ أحمد التميمي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هو الفقيه العابد الزاهد الشيخ محمّد تقي بن محمّد باقر البافْقي اليزدي النّجفي القمّي الرّازي، أحد أعلام الإماميّة المجاهدين في القرن الرابع عشر الهجري.
* وُلِدَ في مدينة بافْق من ضواحي يزد سنة 1292 للهجرة (1870م)، ونشأ بها، ثمّ انتقل إلى يزد ودرس فيها.
* هاجر الى النّجف الأشرف سنة 1320 للهجرة (1898م) وأكمل دراسته، حتى بلغ درجة الاجتهاد.
* من أبرز أساتذته: السيد محمّد كاظم اليزدي (صاحب العروة الوثقى)، والشيخ محمّد كاظم الخراساني (صاحب كفاية الأصول)، والسيد أحمد الكربلائي (التلميذ البارز للفقيه العارف الشيخ حسين قُلي الهمداني).
* رجع إلى إيران سنة 1337 للهجرة (1915م)، واستقرَّ في قمّ المقدّسة.
* من أشدّ المصرّين على الشيخ عبد الكريم الحائري أنْ ينتقل إلى قمّ المقدّسة لإدارة الحوزة العلميّة فيها.
* يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر باستمرار، وله مواقف جهاديّة نادرة ضدّ الشاه رضا خان، أدّتْ إلى سجنه، ومن ثمّ نفيه إلى الريّ (جنوب شرق طهران) سنة 1347 للهجرة (1925م).
* قال عنه معاصره وزميله في الدرس الشيخ آغا بُزُرْك الطهراني: «عالم ورع وتقيّ مقدّس... هاجر إلى النّجف وبقي فيها 17 عاماً يشتغل بالعلم والمجاهدة بالرياضة مع غاية الزهد والقناعة».
* تُوفّي في الريّ يوم 12 جمادى الأولى سنة 1365 للهجرة (1946م)، ونُقِلَ جثمانه الطاهر إلى قمّ المقدّسة، وشُيّع تشييعاً حافلاً حضره كبار العلماء، ودُفِنَ في (رواق بالا سر) الرواق جهة الرأس الشريف للسيّدة فاطمة المعصومة عليها السّلام.
في يوم 27 شهر رمضان سنة 1346 للهجرة (والذي وافق يوم النيروز، 21 آذار)،احتشد الناس في مقام السيدة فاطمة المعصومة عليها السّلام في مدينة قمّ المقدّسة، ينتظرون حلول السنة الهجرية الشمسية الجديدة.
وحَضَرتْ من طهران أُسرة الشاه رضا خان بهلوي (أب الشاه المخلوع) وفيها نساؤه، فجلسوا في غرفة خاصة في أعلى أحد الأواوين من مقام السيد ة المعصومة عليها السّلام، وكانت نساؤه سافرات سفوراً كاملاً، فأغاظ ظهورهنّ سافراتٍ في هذا المقام المقدّس جمهور الزائرين.
وصل الخبر الى الشيخ محمّد تقي البافْقي فأرسل إلى أُسرة الشاه يقول: «إنْ كنتم مسلمين فلتحتجب نساؤكم في هذا المقام المقدّس، وإنْ كنتم غير مسلمين فما حضوركم هنا؟!».
فلم يعتنوا بقوله، فحضر بنفسه إلى المقام وزجرهنّ وأمرهنّ بالاحتجاب أو الخروج، وثارت ضجّة كبيرة بين الجمهور، فخرجت أُسرة الشاه من المقام وذهبوا إلى منزل قَيّم المقام، ومن هناك اتصلوا هاتفياً بالشاه وأعلموه بالخبر، فأمر بإبلاغ رئيس شرطة قمّ أنْ يعتقل الشيخ البافْقي.
ثمّ حضر إلى قمّ بنفسه ومعه جماعة من الجند، فلما ترّجل من السيارة، أخذ يضرب كلّ مَن لقيه من الناس بالعصا ويركلهم برجله ويشتمهم شتماً قبيحاً، ثمّ دخل حرم مقام السيدة المعصومة عليها السّلام بحذائِه، وطلب إحضار الشيخ البافْقي، فجيء به على وضع مهين، فطرحه أرضاً على وجهه وهو يشتمه شتماً قبيحاً، وانهال عليه ضرباً شديداً بالعصا إلى أنْ سكن غيظه، ثمّ أمر بإرساله إلى طهران ووضعه في السجن.
ظلّ الشيخ البافْقي مدّة ستة أشهر في السجن، إلى أنْ توسّط له الشيخ عبد الكريم الحائري (والذي بذل جهوداً كبيرةً في هذا المجال) فأُفرج عنه، ولكنْ فُرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة الريّ، ليعيش منفيّاً في جوار حرم السيّد عبد العظيم الحسني رضوان الله عليه، وذلك في سنة 1347للهجرة.
(مستدركات أعيان الشيعة: 5/209)
الزيارة مشياً على الأقدام
طيلة زمان إقامة الشيخ البافْقي في النّجف الأشرف (17 عاماً)، كان يقصد كربلاء المقدّسة صباح كلّ يوم خميس مشياً على الأقدام، قاطعاً مسافة 80 كيلومتراً، ليحيي الليلَ في حرم الإمام الحسين عليه السّلام، حتّى إذا طلع الصباح عاد إلى النّجف الأشرف ماشياً على قدميهِ ويصل إليها عند الغروب، ليتسنّى له ممارسة التدريس في حوزة النّجف صبيحة يوم السبت.
(شبكة الإمام الرّضا عليه السّلام)
دَعوة الشيخ الحائري ورعاية الطلّاب
تحدّث الشيخ البافْقي عن دعوته الفقيه الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري للإقامة في قمّ المقدّسة لإدارة الحوزة العلميّة فيها، قائلاً: «مع أنّ الشيخ الحائري قد لاحظ عن كثب... وضع المدارس المهجورة والمتهدّمة في قمّ كـ(الفيضيّة) و(دار الشفاء)... وأظهر أسفه الشديد لذلك، مع كلّ ذلك فانّه كان يرى من الصعب عليه أن ينقل الحوزة العلميّة من أراك إلى قمّ.
وعندما أصررتُ عليه، ذكر بعض الأسباب التي تعيقه من الإقدام على هذا العمل فأجبتهُ عنها، وأخيراً أقنعته بهذه الكلمة وصرفتُ نظره عن الرجوع إلى أراك، قُلتُ له: (لقد رأيتم الأخبار التي رُويت عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام حول آخر الزّمان، وأنّ مدينة قمّ ستكون مركزاً للعلم ومنها يفيض العلم إلى سائر البلدان، وأنّ العلم في ذلك الزمان يأرز -أي يقبض- عن الكوفة كما تأرز الحيّة في جُحرها ويظهر في قمّ؟).
قال: نعم، فقلتُ له: أتؤمن بها أم تشكّ؟ قال: بَلْ أؤمن.
فقلتُ له: (ألا تريد أنْ يكون وضع حجر الأساس لهذا البناء على يديك وليبقى هذا العمل باسمك ومن الباقيات الصّالحات لك؟).
فقال: نعم، فقلتُ: (إذاً، قرّر البقاء هنا، وأرسل إلى "أراك" أنّ من أراد أنْ يأتي إلى قمّ، فليأتِ)».
ونظراً لإصرار الشيخ البافْقي، وجماعة آخرين من كبار العلماء، ورغبة أهالي قمّ، كلّ ذلك جعل الشيخ الحائري يستخير الله تعالى، فجاءت الآية الكريمة: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، فقرّر البقاء في قمّ، وأرسل إلى فضلاء وطلاب أراك بأنْ يلتحقوا به أيضاً. (يُوسُف:92)
وهكذا تأسّست الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة على يد الشيخ الحائري، وكان الشيخ البافْقي خير مُعين له في هذه المرحلة المهمة، إضافةً إلى جهود العلماء الآخرين.
(كفاح علماء الإسلام: 327)
وبعد اكتمال التأسيس، كان الشيخ البافْقي يتولّى توزيع الرواتب الشهرية على الطلّاب، وقد اقترن توزيعه هذا بالنّجابة وحفظ كرامة الطلّاب، فإنّه كان يعزل راتب كلّ طالب على حِدة -طبقاً للسجلّ المعتمد- ويضعه في مظروف، ويقصد هو بنفسه كلّ طالب في غرفته ليسلّمه إياه.
(شبكة الإمام الرّضا عليه السّلام)
توحيد الله والتّوكّل عليه
بعد إطلاق سراحه من سجن رضا بهلوي، أُبعد الشيخ البافْقي إلى الريّ، ذات يوم كان جالساً في منزله فإذا برئيس شرطة المنطقة قد دخل، وبعد السّلام والإذن بالجلوس، جلس قرب الباب، وقال:
- مولانا، أنا مأمور من قبل رؤسائي أنْ أُوفّر لك ما تحتاجه وأُنّفذ طلباتك.
فغضب الشيخ البافْقي وهو المُوحّد المتوكّل على الله وقال:
- ومن أنت حتى تدّعي تنفيذ جميع طلباتي وقضاء حوائجي؟!
- أنا رئيس الشرطة.
- إنّ حاجتي الآن أنْ تظهر غيمة في هذه السماء الصافية المشمسة وتمطر لتبلّ الأرض، فهل تستطيع أنْ تحقّق ذلك؟
- كلّا، لا استطيع.
- رؤساؤك هل يستطيعون؟
- كلّا.
- ورؤساؤهم كيف... الشاه نفسه هل يستطيع؟
- كلّا، لا يستطيع أحد منهم ذلك.
- إذاً، ما دُمتَ تعترف بعجزك وعجز كلّ مسؤولي المملكة وتعترف باستجدائهم، كيف تريد أنْ تُؤمّن حوائجي؟ وماذا يمكنني أنْ أطلب من مسؤولي المملكة العاجزين وغير القادرين؟! قُمْ، ولا تتكلّم بعد بألفاظ الشِّرك هذه.
فقام رئيس الشرطة خجلاً، وأيقن أنّه لا يمكنه التأثير بشيء على مثال التّوكّل والتوحيد هذا.
(سيماء الصّالحين: 327)
الزّهد وبساطة العيش
كتب أحد معارف الشيخ البافْقي: «ذهبتُ لمقابلته في الريّ. دارُه في زقاق خلف سوق الحرم. دخلتُ من باب خشبي صغير، كان الممرّ طويلاً، في جانبه الأيمن مطبخ عتيق، حيث وُضِعَ حطب وكمية كبيرة من القشّ للطبخ، وكان ثمة قِدر حجري فوق النار يغلي، ودخان النار قد ملأ الممرّ وفناء الدار.
كانت حيطان الفناء والغرف من الطين، وغرفة الجلوس مفروشة بحصير».
(شبكة الإمام الرّضا عليه السّلام)
فراسة المؤمن
عن الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور الله». (الكافي: 1/218)
في ما يلي جوانب من فراسة الشيخ البافْقي رضوان الله عليه، كما عدّدها سماحة الشيخ حسين كوْراني في إحدى محاضراته، سنة 1407:
1- توسّم في الإمام الخميني رضوان الله عليه، أنّ زوال الحكم الملكي البهلوي سيكون على يديه.
2- توقّع أنّه سيُعتقل في قمّ ويُنفى منها، وأخبر بذلك قبل اعتقاله.
3- توقّع أنْ يدخل إلى إيران (الزي الغربي) -لم يكن هذا الزيّ متعارفاً على الإطلاق، في حينه- قبل مجيئه بثمان سنوات.
4- حدّد وقت إطلاق سراحه من منفاه في الريّ، فعندما يُسأل: متى تعود إلى قمّ؟
كان يجيب: «عندما يدخل أهل الشمال (الروس) من الشمال، وأهل الجنوب (الإنجليز) من الجنوب ويحاصرون العاصمة طهران، ويأخذون الشاه، عندها سأذهب إلى قمّ»، وهذا ما قام به الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وعندها عاد إلى قمّ، وكان إخباره بهذا قبل زمن طويل من وقوعه.
5- توقّع موت الشاه الطاغية، كان يقول مراراً: «كان هذا (رضا خان) يريد القضاء عَلَيّ، ولا يعلم أنّه لا يستطيع أنْ يقضي على شيخ في حِمى الله وفي ظلّ توجهات صاحب العصر والزمان، لا يعلم أنّ الله يمنع عبده البافْقي، سأبقى حيّاً وأشهدُ هلاكه».
مقاطعة البضائع الأجنبية والحكومية
لَمْ يَرتَدِ الشيخ البافْقي طيلة عمره غير الثياب من (الكرباس)، وقماش محلّي من أصفهان ويزد، حتى أنّ عمامته كانت من (الكرباس).
لم يستعملْ أبداً الأواني البلوريّة والصينيّة المستوردة من الخارج، ولم يكن في بيته إناء من غير النحاس والفّخار، ولم يستهلكْ شيئاً من المواد الغذائية المستوردة من الخارج.
(سيماء الصّالحين:401)
كان الشيخ البافْقي لا يستعمل النفط والسكّر الحكوميّين، ويستخدم للإضاءة سراجاً يُضاء بالزيت، ويقول: «الدولة كافرة، وهي تضع أموال المسلمين في جيب الكفّار».
(شبكة الإمام الرضا عليه السّلام)
مع الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف
كان الشيخ البافْقي يُصرّح بخروج صاحب العصر والزمان عليه السّلام، وأنّه سيكون موجوداً في محضره الشريف...
يقول الشيخ محمّد شريف الرازي: «سمعتُه مِراراً يقول: مُنذ أكثر من 35 عاماً وأنا أصرخ طالباً التّشرف بخدمة بقية الله، وأنْ أكونَ في ركابه...».
وهذا الكلام من الشيخ البافْقي ينسجم مع إيماننا بـ (الرّجعة)، والتي هي ثابتة عند الشيعة الإماميّة، ويقصد أنّه سيرجع وسيكون من أنصار الإمام المنتظَر عليه السّلام.
(الشيخ حسين كَوْراني)
وفي زمن زعامة الشيخ الحائري للحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة، قام الشيخ البافْقي بإعمار وتوسعة مسجد(جمكران) المعروف، والذي بُني بأمر خاصّ من الإمام المهديّ عجّل الله فرجه الشريف.
زيارة مؤمن
الإمام الخميني كثيراً ما كان يذكر الشيخ البافْقي أثناء إلقائه دروس الأخلاق في المدرسة الفيضية، وكان يقول بحقه: «على كلّ من يريد أنْ يحظى بثواب زيارة مُؤمن خَضَعتْ له الشياطين وطَأطَأتْ له، فليذهب إلى ناحية الريّ، بعد زيارة السيد عبد العظيم، وَلْيَزُر الشيخ محمّد تقي بافْقي».
(الإمام يقود الثورة: 45)